التفاصيل اللبنانية كثيرة، لكنها صغيرة. منها مثلاً عدم انتخاب رئيس جديد للجمهوري، فمنذ سنة وعشرة أشهر انتهى عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، وما يزال مقعده في قصر بعبدا خالياً. وقد دُعي مجلس النواب إلى خمس وثلاثين جلسة لانتخاب رئيس جديد، ولم يكتمل النصاب القانوني في أي جلسة. وأغرب ما في الأمر أن المرشحين للرئاسة الجنرال ميشال عون مؤسس «التيار الوطني الحر»، والنائب سليمان فرنجية رئيس «تيار المردة»، هما أول المتغيبين الممتنعين عن الحضور من دون عذر. أما المرشح الثالث هنري حلو من كتلة نواب «اللقاء الديموقراطي» برئاسة وليد جنبلاط، فهو أول الحاضرين دائماً مع رفاق كتلته.

مع ذلك، يتابع الرئيس نبيه بري تكرار دعوة المجلس الى الانعقاد، والموعد الجديد المحدد للجلسة السادسة والثلاثين في مطلع شهر آذار (مارس) المقبل.

هذه الظاهرة المستجدة على الحياة البرلمانية فتحت الذاكرة اللبنانية على زمن «السطوة» السورية على مجلس النواب، وعلى سرايا الحكومة، وعلى القصر الجمهوري، ففي ذلك الزمن الذي دام نحو أربعين سنة لم تتعثر جلسة نيابية واحدة، خصوصاً جلسة انتخاب الرئيس. وبين النواب الحاليين من يتذكر كيف كانت عناصر «الردع السوري» تأتي بالنائب المتمنع «مخفوراً» إلى مجلس النواب وفي قبضة يده ورقة الاقتراع التي تتضمن اسم المعيّن برتبة صاحب الفخامة.

يحزن اللبناني إذ يقارن بين اليوم بالأمس غير البعيد، حين كانت قبضة «السطوة» السورية تمسك بكل مفاصل الدولة وتخضع مؤسساتها للأوامر التي كانت تصدر من «عنجر».

سنة وتسعة أشهر واللبنانيون يدورون في فراغ رئاسي ونيابي وحكومي وإداري وقضائي، وفي حين تستعيد نخب من «الحراك الشعبي» دوراً لها وتعاود النزول إلى الشارع، لا تجد من تواجهه، ففي جلسة أخيرة لمجلس الوزراء كانت منعقدة في السرايا كان عدد من متطوعي جهاز الدفاع المدني معتصمين في خيمة لا تبعد كثيراً عن السرايا. هؤلاء كانوا ينتظرون إقرار حقهم بالتثبيت وبالتعويضات المستحقة لهم. وقد طالت جلسة الوزراء، الذين أتوا على عشرات القرارات، وكان معظمها مخالفاً للقوانين، وإذ وصلوا الى بند حقوق متطوعي الدفاع المدني نظروا إلى ساعاتهم، وتوقفوا عن البصم «نظراً لضيق الوقت».

مساء ذلك اليوم، سمع اللبنانيون المقيمون والمغتربون في جميع أنحاء الأرض، عبر التلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، كلاماً من العيار الثقيل وجهه رجال الدفاع المدني الى من يعنيهم الأمر في الدولة وفي مجلس النواب.

هؤلاء الرجال الذين يفدون اللبنانيين بحياتهم وهم يقتحمون الحرائق والمباني المتداعية ويتحدون الأخطار لإنقاذ المصابين ويسقط لهم شهداء يتركون خلفهم عائلات من أيتام وأرامل وثكالى، لا يحصلون على حقهم بالتثبيت وبالتعويضات المستحقة لهم، في حين تنهال الأموال على حسابات الوزراء والنواب من المال العام الذي يجبى من الشعب. وفوق ذلك يقترح وزراء ونواب زيادة الضريبة على صفيحة البنزين لتأمين تعويضات متطوعي الدفاع المدني من خبز الفقراء ومن أدوية المرضى، هؤلاء لا نصيب لهم من وقت وزراء ونواب لا يدفعون ضرائب، ولا يمارسون واجبهم بانتخاب رئيس للجمهورية، ولا يعنيهم أن تعيش غالبية اللبنانيين على قلق وعذاب وفقر، مع شح الرجاء بأن يكون الغد أفضل. بل لا يعنيهم أن تسقط الدولة، وهي تسقط فعلاً، معنوياً وأخلاقياً، الى درجة التساؤل: من يملك قرار إعلان لبنان جمهورية فاشلة؟

لم يخطر في بال المشترع الذي أنجز مسوّدة الصيغة النهائية للدستور اللبناني الأول، أنه يوماً ما، في زمن ما، يمكن أن يجد اللبنانيون جمهوريتهم بلا رأس، ويكون مجلس النواب مقفلاً، والحكومة مسيّرة، والبلاد على شفا هاوية، ولا ضوابط، ولا ضمانات إقليمية أو دولية.

لكن ماذا بإمكان أي مشترع أن يبتكر من المواد والنصوص الدستورية لحماية دولة من الانهيار إذا كان بين أهلها من يعمل على تفكيكها وإسقاطها؟

شيء من الخيال يجعله أمراً واقعاً هذا الجموح نحو إسقاط الدولة اللبنانية الضعيفة والمتهالكة أصلاً.

لا فائـــدة من اتهام أي دولة أو جهـــة معينة بحبك المؤامرة. وكما يبدو، فإن هناك قراراً بحل الدولة، بــــعد حل مجلس النواب. ولولا صمود الجيش اللبناني على الحدود، وقوى الأمن في الداخل، لعمّت الفوضى.

سبق لدول أوروبا الشرقية أن عانت قبل نحو سبعة عقود من الحروب والقهر والفقر والتخلف ولم تسترد حريتها، وهويتها، وثقافتها إلا بعد انهيار منظومة الاتحاد السوفياتي. وها إن تلك الدول الآن تسابق دول الغرب الديموقراطي على التقدم والتفوق في مسارات النمو والتميز والاستقرار.

وإذ يستعيد اللبنانيون نكباتهم ومصائبهم، وتضحياتهم وشهداءهم، فضلاً عن خسائرهم المدنية والمعنوية خلال حقبة «السطوة» السورية، يجدون أنفسهم من جديد في حال حصار داخلي وخارجي ينذرهم بما معناه: لن تملكوا قراركم، ولن تستعيدوا نمط حياتكم ودوركم في السياسة والثقافة، وفي الاقتصاد والسياحة والتطور والتقدم.

واقع أمر اللبنانيين في هذه المرحلة أنهم «رهائن». ومن سوء حالهم وحظهم أن المجتمع الدولي منشغل بسواهم من الشعوب والدول في المحيط الإقليمي، وفي المحيط الأوسع والأبعد.

لا يحتاج اللبنانيون الى من يشرح لهم التفـــاصيل، فالشعب السوري المنكوب بنظامه وبحكامه، وبحروبه الهمجية يندفع هروباً في كل الاتجاهات، وقد بات عدد الســوريين اللاجئين إلى لبنان يعادل ثلث عدد شعبه، والأبواب مشرعة على المزيد، إذ ليــــس في الأفق الإقليمي أو الدولي بارقة أمل بأن تعود سورية دولة واحدة موحدة لشعب آمن ومستقر. وطالما أن قدر لبنان من قدر سوريـــة عبر التاريخ القديم والحديث، فمن يتفضل ويطمئن اللبنانيين إلى مستقبلهم القريب؟ من يستطيع أن يطمئنهم وقد اختبروا بأنفسهم ما معنى «المجتمع الدولي» خلال المرحلة السورية الحافلة بالحروب وبالنكبات التي خلفتها والمستمرة حتى الآن؟ بدءاً بمواكب الشهداء من القيادات الوطنية السياسية والثقافية والمدنية، إلى الانهيارات الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية؟

ثم إن الوقائع والتواريخ شاهدة:

فها أن لبنان يحيي الذكرى الحادية عشرة لاستشهاد رفيق الحريري مع نخبة من مساعديه ومرافقيه، وها هي هيئة المحكمة الدولية ملتئمة في جلسات متتالية منذ نحو ثماني سنوات، وقد ملأت إفادات الشهود آلاف الأشرطة المسجلة، وتراكمت ملفات المطالعات والمرافعات والمذاكرات المدوّنة على جبهتي الادعاء والدفاع، بأرقى درجات الحنكة والبلاغة والتمكن من نصوص القوانين الجنائية على المستوى الفردي والجماعي، ولكن حتى اليوم لا يزال أفضل التكهنات يرجح الموعد المنتظر لإصدار الأحكام بين سنتين وثلاث، وربما أكثر.

ثم إن الأحكام المتوقعة، أياً تكن مضامينها ونتائجها، لن تعيد أحداً ممن غابوا، ولن ترد لبيروت روحاً فقدتها، وللأسواق بهجة خسرتها، وللبنانيين تراثاً مدنياً وحضارياً يندثر، ونمط حياة كانت باهرة بأسلوبها وبغناها، ولطالما فاخروا بها، وكانوا لها رواداً ورسلاً.

كل ذلك صار من الماضي. فمن هو القادر على تغيير هذا الاتجاه الذي يندفع فيه لبنان؟

بالتأكيد هناك بين اللبنانيين أكثر من قادر على القيام بهذا الدور. لكن من يسمح له؟

ومع ذلك يستمر السؤال متردداً: متى انتخاب رئيس جديد للجمهورية يوقف الانهيار الذي يهدّد مصير لبنان؟ وتأتي الأجوبة مربكة وغامضة، لكن جواباً واحداً يكفي، فمنذ أيام قليلة أعلن المعاون السياسي للأمين العام «لحزب الله» حسن خليل جواباً واضحاً من مقر «التيار الوطني الحر»: «نحن لدينا مرشح طبيعي دائم اسمه العماد ميشال عون، وعندما تتوافر الظروف الملائمة لانتخابه رئيساً للجمهورية سنكون أول الوافدين الى المجلس النيابي»، مضيفاً: «حين يحين قطافها سنقطفها، فلنترك الأمور لعامل الوقت».

واضح أن هذا ليس تصريحاً، إنه بلاغ

عزت صافي